فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.سجع:

سبحان المتفرد بالقدرة فلا تقدر الخلائق قدره أنعم فمن يطيق شكره كلا إن الغافل في سكرة {أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} جل صفة وعز اسما وبسط أرضا ورفع سما وأنزل من السماء ماء فحمى النبات فسموه جمرة {فتصبح الأرض مخضرة} تعرفه القلوب والألباب ويسبحه الصحو والضباب انبعث الغيم فما توقف السحاب أقبل الرعد في صرة {فتصبح الأرض مخضرة} تأخر الغيث فتمكن الضر ثم جاء فالمؤمن بذلك سر فاستغاث النبات مما عر فجاء بعد أن كان قد مر كم كر كرة بعد كرة {فتصبح الأرض مخضرة}.
أصبح الثرى عطشان ينادي واليبس عليه ظاهر بادي فصاح الرعد بالسحاب صياح الحادي فتروى الوادي وسالت الجرة {فتصبح الأرض مخضرة} انبعث السحاب فطبق الأرجا وصاح البدوي في البدو النجا والجرون متلفعة بالغثا دب ثم نعش ثم قطقط ثم أفرط ثم جاء بكرة {فتصبح الأرض مخضرة} انكشفت سماء الأرض عن بدورها وأذنت الغائبات النبات في حضورها ولم تخن الأرض من بذر نباتها ذرة {فتصبح الأرض مخضرة} أحضرت أمهات الزرع عن بناتها واجتمعت الأغصان بالقطر بعد شتاتها وتزينت للناظرين بأنواع نباتها ولقد كانت عرة {فتصبح الأرض مخضرة} فشت الزينة في الصحاري والبرى وأظهرت عجائب القدرة فيما يرى وأشاع الثرى كما ترى من المكتوم سره {فتصبح الأرض مخضرة} ماتت تحت الأرض كل البذور فإذا الرعد ينفخ في الصور فضحك النور بالنور لما سره {فتصبح الأرض مخضرة} قام ميت البذر من حفرته وقدم بعد طول سفرته ومنح النبات لكثرته قانعة ومعترة فتصبح الأرض مخضرة تكلمت الأطيار والمعنى مفهوم وارتاحت بنطقها حتى البوم وتبدلت الأرض الفرح من الهموم فانقلبت تلك الغموم كلها مسرة {فتصبح الأرض مخضرة} جيدت الأرض فروت التراب وأجيدت المواعظ فهل أحضرت الألباب وما يؤثر اللوم والعتاب إلا عند نفس حرة {فتصبح الأرض مخضرة} والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. اهـ.

.قال سيد قطب:

إن الحديث عن الصلاة والطهارة إلى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء. وإن ذكر حكم الطهارة إلى جانب أحكام الصيد والإحرام والتعامل مع الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام.. إن هذا لا يجيء اتفاقًا ومصادفة لمجرد السرد، ولا يجيء كذلك بعيدًا عن جو السياق وأهدافه.. إنما هو يجيء في موضعه من السياق، ولحكمته في نظم القرآن..
إنها- أولًا- لفتة إلى لون آخر من الطيبات.. طيبات الروح الخالصة.. إلى جانب طيبات الطعام والنساء.. لون يجد فيه قلب المؤمن ما لا يجده في سائر المتاع. إنه متاع اللقاء مع الله، في جو من الطهر والخشوع والنقاء.. فلما فرغ من الحديث عن متاع الطعام والزواج ارتقى إلى متاع الطهارة والصلاة؛ استكمالًا لألوان المتاع الطيبة في حياة الإنسان.. والتي بها يتكامل وجود «الإنسان».
ثم اللفتة الثانية.. إن أحكام الطهارة والصلاة؛ كأحكام الطعام والنكاح؛ كأحكام الصيد في الحل والحرمة؛ كأحكام التعامل مع الناس في السلم والحرب. كبقية الأحكام التالية في السورة كلها عبادة لله. وكلها دين الله. فلا انفصام في هذا الدين بين ما اصطلح أخيرًا- في الفقه- على تسميته «بأحكام العبادات»، وما اصطلح على تسميته «بأحكام المعاملات»..
هذه التفرقة- التي اصطنعها «الفقه» حسب مقتضيات «التصنيف» و«التبويب»- لا وجود لها في أصل المنهج الرباني، ولا في أصل الشريعة الإسلامية.. إن هذا المنهج يتألف من هذه وتلك على السواء. وحكم هذه كحكم تلك في أنها تؤلف دين الله وشريعته ومنهجه؛ وليست هذه بأولى من تلك في الطاعة والاتباع. لا، بل إن أحد الشطرين لا يقوم بغير الآخر. والدين لا يستقيم إلا بتحققهما في حياة الجماعة المسلمة على السواء.
كلها «عقود» من التي أمر الله المؤمنين في شأنها بالوفاء، وكلها «عبادات» يؤديها المسلم بنية القربى إلى الله. وكلها «إسلام» وإقرار من المسلم بعبوديته لله.
ليس هنالك «عبادات» وحدها و«معاملات» وحدها.. إلا في «التصنيف الفقهي».. وكلتا العبادات والمعاملات بمعناها هذا الاصطلاحي.. كلها «عبادات» و«فرائض» و«عقود» مع الله. والإخلال بشيء منها إخلال بعقد الإيمان مع الله!
وهذه هي اللفتة التي يشير إليها النسق القرآني؛ وهو يوالي عرض هذه الأحكام المتنوعة في السياق.
{يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة...}.
إن الصلاة لقاء مع الله، ووقوف بين يديه سبحانه ودعاء مرفوع إليه، ونجوى وإسرار. فلابد لهذا الموقف من استعداد. لابد من تطهر جسدي يصاحبه تهيؤ روحي. ومن هنا كان الوضوء- فيما نحسب والعلم لله- وهذه هي فرائضه المنصوص عليها في هذه الآية:
غسل الوجه. وغسل الأيدي إلى المرافق. ومسح الرأس وغسل الرجلين إلى الكعبين.. وحول هذه الفرائض خلافات فقهية يسيرة.. أهمها هل هذه الفرائض على الترتيب الذي ذكرت به؟ أم هي تجزىء على غير ترتيب؟ قولان..
هذا في الحدث الأصغر.. أما الجنابة- سواء بالمباشرة أو الاحتلام- فتوجب الاغتسال..
ولما فرغ من بيان فرائض الوضوء، والغسل، أخذ في بيان حكم التيمم. وذلك في الحالات الآتية:
حالة عدم وجود الماء للمحدث على الإطلاق..
وحالة المريض المحدث حدثًا أصغر يقتضي الوضوء، أو حدثًا أكبر يقتضي الغسل والماء يؤذيه..
وحالة المسافر المحدث حدثًا أصغر أو أكبر..
وقد عبر عن الحدث الأصغر بقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط}.. والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه.. والمجيء من الغائط كناية عن قضاء الحاجة تبولًا أو تبرزًا.
وعبر عن الحدث الأكبر بقوله: {أو لامستم النساء}.
لأن هذا التعبير الرقيق يكفي في الكناية عن المباشرة..
ففي هذه الحالات لا يقرب المحدث- حدثًا أصغر أو أكبر- الصلاة، حتى يتيمم.. فيقصد صعيدًا طيبًا.. أي شيئًا من جنس الأرض طاهرًا يعبر عن الطهارة بالطيبة- ولو كان ترابًا على ظهر الدابة، أو الحائط. فيضرب بكفيه، ثم ينفضهما، ثم يمسح بهما وجهه، ثم يمسح بهما يديه إلى المرفقين.. ضربة للوجة واليدين. أو ضربتين.. قولان..
وهناك خلافات فقهية حول المقصود بقوله تعالى: {أو لامستم النساء}.. أهو مجرد الملامسة؟ أم هي المباشرة؟ وهل كل ملامسة بشهوة ولذة أم بغير شهوة ولذة؟ خلاف..
كذلك هل المرض بإطلاقه يجيز التيمم؟ أم المرض الذي يؤذيه الماء؟ خلاف..
ثم.. هل برودة الماء من غير مرض؛ وخوف المرض والأذى يجيز التيمم.. الأرجح نعم..
وفي ختام الآية يجيء هذا التعقيب: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج. ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}.
والتطهر حالة واجبة للقاء الله- كما أسلفنا- وهو يتم في الوضوء والغسل جسمًا وروحًا. فأما في التيمم فيتم الشطر الأخير منه؛ ويجزئ في التطهر عند عدم وجود الماء، أو عندما يكون هناك ضرر في استعمال الماء. ذلك أن الله سبحانه لا يريد أن يعنت الناس، ويحملهم على الحرج والمشقة بالتكاليف. إنما يريد أن يطهرهم، وأن ينعم عليهم بهذه الطهارة؛ وأن يقودهم إلى الشكر على النعمة، ليضاعفها لهم ويزيدهم منها.. فهو الرفق والفضل والواقعية في هذا المنهج اليسير القويم.
وتقودنا حكمة الوضوء والغسل والتيمم التي كشف النص عنها هنا: {ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}.
تقودنا إلى تلك الوحدة التي يحققها الإسلام في الشعائر والشرائع على السواء. فليس الوضوء والغسل مجرد تنظيف للجسد، ليقول متفلسفة هذه الأيام: إننا لسنا في حاجة إلى هذه الإجراءات، كما كان العرب البدائيون! لأننا نستحم وننظف أعضاءنا بحكم الحضارة! إنما هي محاولة مزدوجة لتوحيد نظافة الجسم وطهارة الروح في عمل واحد؛ وفي عبادة واحدة يتوجه بها المؤمن إلى ربه. وجانب التطهر الروحي أقوى. لأنه عند تعذر استخدام الماء يستعاض بالتيمم، الذي لا يحقق إلا هذا الشطر الأقوى.. وذلك كله فضلًا على أن هذا الدين منهج عام ليواجه جميع الحالات، وجميع البيئات، وجميع الأطور، بنظام واحد ثابت، فتتحقق حكمته في جميع الحالات والبيئات والأطوار؛ في صورة من الصور، بمعنى من المعاني؛ ولا تبطل هذه الحكمة أو تتخلف في أية حال.
فلنحاول أن نتفهم أسرار هذه العقيدة قبل أن نفتي فيها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ولنحاول أن نكون أكثر أدبًا مع الله؛ فيما نعلم وفيما لا نعلم على السواء.
كذلك يقودنا الحديث عن التيمم للصلاة عند تعذر الطهارة بالوضوء أو الغسل أو ضررها إلى لفتة أخرى عن الصلاة ذاتها.
عن حرص المنهج الإسلامي على إقامة الصلاة؛ وإزالة كل عائق يمنع منها.. فهذا الحكم بالإضافة إلى الأحكام الأخرى كالصلاة عند الخوف والصلاة في حالة المرض من قعود أو من استلقاء حسب الإمكان.. كل هذه الأحكام تكشف عن الحرص البالغ على إقامة الصلاة؛ وتبين إلى أي حد يعتمد المنهج على هذه العبادة لتحقيق أغراضه التربوية في النفس البشرية. إذ يجعل من لقاء الله والوقوف بين يديه وسيلة عميقة الأثر، لا يفرط فيها في أدق الظروف وأحرجها؛ ولا يجعل عقبة من العقبات تحول بين المسلم وبين هذا الوقوف وهذا اللقاء.. لقاء العبد بربه.. وعدم انقطاعه عنه لسبب من الأسباب.. إنها نداوة القلب، واسترواح الظل، وبشاشة اللقاء. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} وفى النحل: {كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون} فورد في الآيتين إتمام نعمته سبحانه على عبادة بعبارة متحدة ثن اختلف النترجى منه سبحانه جزاء على ذلك.
والجواب والله أعلم: أن آية المائدة خطاب للمؤمنين بما يجب عليهم من الطهارة لصلاتهم وتعليم لهم كيفية عملهم في ذلك وإنعام عليهم برخصة التيمم إذا عدموا الماء وكل هذا مستوجب للشكر لله سبحانه فقيل في ختام هذه الآية {لعلكم تشكرون} وأم آية النحل فإن السورة كلها مكية إلا آيات من آخرها وغالب حالها أنها خطاب لكفار قريش وما كان مثلهم ألا ترى افتتاحها بقوله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} وإنما هذا خطاب للمرتابين في الساعة تكذيبا وكفرا ثم قال: {سبحانه وتعالى عما يشركون} وقرئ بالتاء فأوضح أن الخطاب للمرتابين وقوله بعد: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} وقوله: {والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم لا يخلقون} إلى ما بعد ثم قال: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين} ثم قال: {قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد} وقال: {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين} ثم قال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} ثم قال: {ويجعلون لله ما يكرهون} ثم قال بعد آى فذكر بما امتن به سبحانه فقال: {ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا...} الآية وعلى هذا استمرت آية سورة النحل وقد تخللها من تذكيرهم بإنعام الله عليهم كثير إلى قوله: {والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا} وكل هذا تذكير بعجائبه من إنعامه تعالى لا يمكن نسبة شيء منها لغيره ثم أعقب ذلك بقوله: {كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون} أى تدخلون في دين الإسلام الذي لا يقبل في الآخرة سواء فهذا أوضح تناسب والسورة مكية.
أما آية المائدة فلم يقع قبلها لغير المؤمنين ولا ما قصد به سواهم ولم يخاطبوا باسم الإيمان إلا وإسلامهم حاصل ثم علموا طهارتهم بعد بيان ما أحل لهم وحرم عليهم ثم أعقب تعليمهم برخصة التيمم عند تعذر الماء فناسب رجاء إنعامه عليهم بهدايتهم للشكر فقيل {لعلكم تشكرون} ولم يكن ليلائم في كل من ختام الآتين إلا الوارد فيه ولا يناسب عكس الوارد بوجه فورد كل على ما يجب ويناسب. والله أعلم بما أراد. اهـ.